لا يزال عالمنا العربي في المرحلة المكية من الإيمان والوعي بالطب النفسي ولا تزال مسألة وجود الأمراض النفسية عند البعض أمر جدلي وكأننا بالعصور الوسطى بأوروبا عندما كانت تعزى الأمراض النفسية للأرواح الشريرة وكان المريض يضرب حتى الموت , في حين كان العالم الإسلامي بالشرق يفتح المستشفيات النفسية ويعالج المرضى بأحدث الوسائل الطبية لا يختلف عن معالجة المرض العضوي بأي شيء...
ولكن الأمر الذي أشكل على البعض بوجود المرض النفسي هو تماهي الأعراض النفسية مع أعراض طبيعية تحدث للإنسان عند ضغوطات الحياة المختلفة ,ولكن هذا حكم غير أهل الاختصاص فمرض الاكتئاب النفسي مثلا ينتج عن خلل كيميائي وفيزيولوجي بالدماغ وليس يعني الحزن الذي يصيبنا عند المشاكل والمصائب ,فالحزن هو فقط أحد معايير الاكتئاب النفسي التسعة ولتشخيص الاكتئاب يجب توفر إضافة لهذه الأعراض الفترة الزمنية اللازمة وهي أسابيع وكذلك تأذي الناحية الوظيفية للشخص سواء بالعمل أو العلاقات الاجتماعية أو الدراسية وغيرها وهذا يقاس على الأمراض النفسية الأخرى كالقلق والرهاب والوسواس وغيرها ومما يزيد إنكار المرض النفسي وصمة العار التي تلاحق المريض النفسي بمجتمعنا فيجعله يعزو ما يصيبه إلى أشياء واعتقادات يقبلها المجتمع كالعين والحسد والجن رغم أن الإيمان بهذه الأمور من ديننا ولكن أن نعزي جميع الأمراض النفسية لهذه الأمور فهذا محل اختلافنا, فلماذا لا نعزي المرض العضوي لهذه الأمور ويكون ذلك الإنكار بالوعي أو اللاوعي لكي يبقى مقبول بالمجتمع ولا يقاطع اجتماعيا فلا يزوج ولا يتزوج أحد من أهله وغيرها من امتهانات إضافة لما أسلفناه سابقا أن البعض يعاني من أعراض جسدية نفسية يعيش ويموت دون أن يعرف أنه يعاني من مرض نفسي كالصداع والقولون العصبي والألم الجسدي وخفقان القلب وضيقة النفس .
في التصنيفات النفسية يوجد أكثر من 400 مرض نفسي وأغلب البشر يعانون منها يوما ما في حياتهم والأمراض النفسية التي تسمى الجنون بالعامية لا تتجاوز أصابع اليد حيث لا يوجد هكذا مصطلح بالطب النفسي لكن لان هذه الأمراض تأتي بصورة صارخة من الأعراض يجعل البعض يختصر الطب النفسي بهذه الأوصاف بالنسبة لشفاء الأمراض النفسية لا أبالغ إن قلت أن نسبة الشفاء بالأمراض النفسية أفضل بكثير منه بالعضوية ,وغايتنا بالعلاج أن يستقر المريض ويعيش حياة أقل آلام حتى لو كان الشفاء باستمرار أخذ الدواء لفترة طويلة بالأمراض العضوية لا يوجد شفاء إلا من بضع الإمراض كالانتانية مع تعرض الجسم للإصابة بها لاحقا فمريض السكر والضغط والقلب وأمراض المفاصل وغيرها الكثير يبقى المريض يأخذ علاج مدى الحياة الكثير يسأل عن سبب الانتكاس بالأمراض النفسية ,والسبب يكون غالبا أن المريض لم يستكمل فترة العلاج أو أخذ علاج دوائي فقط دون معرفي وسلوكي أو العكس إضافة للرقية الشرعية لما لها من تأثير روحي ونفسي على المريض سواء النفسي أو العضوي ولكل مرض فترة علاج معينة فبعض الأمراض النفسية يحتاج فترة أسابيع حتى وإن تحسن المريض خلال أيام فعليه أن يستمر بالعلاج فترة كافية لا صلاح الخلل الفسيولوجي لمنع الانتكاسة لاحقا .
ولا يختلف الأمر بالنسبة للمرض العضوي كالتهاب البلعوم مثلا يحتاج أسبوعين من العلاج الدوائي حتى لو تحسن المريض بالأيام الأولى وذلك للوقاية من الانتكاسة والتعرض لجراثيم معندة على نفس العلاج, وكذلك الاكتئاب والوسواس و الرهاب يحتاج أشهر وبعض الأمراض يحتاج سنوات كالفصام والهوس ومرضى الصرع والمعند منها يحتاج علاج مدى الحياة كالسكر والضغط والعوز الهرموني وغير ذلك من أمثله.
وأخيرا نقول تقع مسؤولية دينية وأخلاقية و إنسانية على المجتمع بأطيافه المختلفة وخصوصا وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية في إنقاذ ونشل المرضى النفسيين وإظهار المرض النفسي بصورة مقبولة اجتماعيا بالقرن الماضي كان ينظر لمريض الصرع بأمريكا بانتقاص وامتهان وتغلب المجتمع على ذلك عندما نشرت وسائل الإعلام صور لكثير من المشاهير والعباقرة مصابين بهذا المرض فأصبح الصرع كالسعال لا أحد يعير به وكذلك النظرة للمرض النفسي وننوه هنا أنه تكثر نسبة العباقرة عند أقارب بعض المرضى النفسيين وكذلك تقع مسؤولية على الفن السابع الذي يظهر المرض النفسي بصورة ممجة بقصد أو جهل ليقدم مادة فكاهية وهو لا يدري أنه يجرح مشاعر مئات الناس بجهله هذا الفن الذي أصبح سلاح خطير للترويج لثقافات وسياسات بعض الدول حسب باندورا بنظريته التعلم الاجتماعي.
نأمل أن ندفن المفاهيم القديمة عن المرض النفسي ولكن يبدو أن هذه المفاهيم ستعيش لتسير بجنازة من ينعاها ليبقى المريض النفسي يعيش بين سندان الألم النفسي ومطرقة وصمة العار.
الدكتور موسى طه مثقال