د. طه النعمة
الآنسة مهى شابه تعمل في شركة متعددة الفروع، ومن خلال عملها التقت بباسم وهو شاب يعمل في فرع آخر من فروع الشركة، وقد استلطفا بعضهما، وبعد أيام من تعارفهما أخذت باقات من الورود تصل إلى مهى في مكتبها، وكانت هدايا باسم المفاجئة تلك موضع سرورها رغم نظرات التساؤل من الزملاء والزميلات في المكتب. ولاحظت مهى أن باسم يقوم كذلك بزيارات مفاجئة إلى مكتبها، فضلا عن قيامه بإجراء اتصالات هاتفية متكررة تعقب وصول تلك الباقات للتأكد من وصولها والاستفسار عما تتركه من انطباعات في المكتب أو لمجرد سماع صوتها. وإن لم تكن مهى في مكتبها فإن المكالمات تحول إلى واحدة من زميلاتها اللواتي لم يكن يخفين انزعاجهن من ذلك. تقول مهى متذكرة: " كان لباسم ابتسامة طبيعية لافتة للانتباه وجانب عفوي محبب في تصرفاته، وكان ذلك يروق لي في بادئ الأمر وقادني إلى الظن في إنه غارق لأذنيه في الحب. ولكني أخذت أدرك تدريجياً بأن الغرض الخفي من باقات الزهور كان للتأكد من مكان تواجدي أثناء ساعات العمل، وبدأت ألاحظ بأن صوته كان يتفجر حنقاً إن سمع ما لا يرغب سماعه، ولقد أخافني ذلك كثيراً. وذات يوم صحوت وأنا أفكر مع نفسي لماذا أصبحت هذه العلاقة وكأنها سجن؟ وعندها اقتنعت بأن عليّ إنهاء العلاقة ونفذت قراري على الفور".
وعدا عن تكراره إرسال باقات الورود، فإن باسم أظهر كثيراً من العلامات النوعية للغيرة، أي خشية فقدان المحبوب، مثل فقدان الثقة، والغضب من إبداء الاهتمام الواقعي أو المتصور بشخص آخر والحاجة إلى السيطرة على المحبوب. وحتى إهداء الزهور هنا والذي يبدو ظاهرياً سياقاً شائعاً للتعبير عن التقدير للشريك وإظهار الاهتمام به، فإن دافعه الرئيسي كان الغيرة، ويبدو ذلك وكأنه استثناء للقاعدة لأن أغلبنا ميال أكثر إلى ربط الغيرة بالمواقف والسلوكيات السلبية مثل المراقبة والترصد واستخدام العنف.
لا أحد، في حقيقة الأمر، قادر على تعرف ماهية الغيرة تحديداً، إذ إنها تبقى عصية على التعريف كما هو حال باقي الانفعالات، فضلاً عن كونها انفعال مركب فهي تتضمن، بحدها الأدنى، مشاعر مختلطة ذات علاقة بالخوف والهجر والنبذ والفقدان والتأسي والأسف والغضب والخيانة والخديعة والإهانة، وتجند مجموعة من العمليات المعرفية المنحرفة تتأرجح من الشك إلى الانشغال إلى الانهماك بموضوع إخلاص الشريك أو الشريكة، وهي تستمد عنفوانها البدائي من تفعيل نسق التعلق في الدماغ، وهو حلقة مبرمجة جينياً تؤلف الأساس لأواصرنا الأسرية والاجتماعية، والتي تستثير فينا كدراً واسع النطاق عندما تُهدد تلك الأواصر بالانفصام.
وبحسب ديفيد بوص، الباحث في جامعة تكساس واحد من أبرز الدارسين للغيرة، فإن الغيرة هي انفعال ضروري لأنها رادع ممكن لخيانة محتملة من قبل الشريك عندما تتعرض العلاقات الحميمة لخطر ماثل، وبالنظر لأن البشر أمضوا معظم تاريخهم النشوئي يعيشون في مجموعات صغيرة فقد كان للغيرة تأثير هام، على ما يبدو، في الحيلولة دون خروج الشريك عن الطريق القويم. إذ عندما يتحدث الشريك مع امرأة جميلة في مناسبة اجتماعية، في سبيل المثال، ويبتسم لها بإعجاب، فإن ذلك معناه بالنسبة لشريكته بأن غريمةً قد تجسدت، وبأن تهديداً من لحم ودم أضحى يحذرها من إمكانية فقدان ما كانت تظنه لها. وهذا معناه أن كل ما استثمرته مع شريكها من مشاعر وموارد وما نتج عن العلاقة من أبناء يصبح عرضة لخطر الضياع. لذا فإن الغيرة، كما يُجمع الخبراء، مع بعض الاختلاف في التفاصيل، تعد آلية بقائية. وبغض النظر عن كونها العاطفة الأكثر تخريباً، إذ تأتي في صدارة الدوافع المؤدية إلى جرائم القتل عمداً، وعن كونها الأقل من بين الانفعالات حظاً في الدراسة، فهي، على الأرجح، وليدة الحاجة وذات جذور تضرب عميقاً في ماضينا النشوئي، وهدفها هو المساعدة في إدامة علاقاتنا الحميمة وبالتالي التكاثر مع ضمان توفير الرعاية المناسبة للأبناء بما يؤدي إلى تحسين فرصهم بدورهم في التكاثر والمساهمة في استمرار النوع.
وعند الحديث عن الانفعالات قد لا يكون من السهل وضع معايير دقيقة لما هو سوى وغير سوي، ولكن يمكن القول إن خير الأمور أوسطها، بمعنى أن قدراً مناسباً من الغيرة التي تظهر في ظروف خاصة قد يتوافق مع حقيقة مشاعر الحب التي نكنها نحو المحبوب الذي نغار عليه من الآخرين. والغيرة لا يمكن أن تكون سمة بارزة في علاقة تتوفر فيها محبة الشريك المتبادلة والرضا عنه ويتحقق فيها قدر من الإشباع العاطفي المناسب للطرفين. ولكن في أحيان كثيرة، يكون تفجر مشاعر الغيرة من الشدة بحيث يبدو وكأنه أحدث ثقباً في الدماغ من شأنه طمس معالم التفكير المنطقي والواقعي ودفع المرء نحو سلوكيات متولدة عن نبوءات لا تتطابق إلا مع مخيلته ولا تؤدي سوى إلى حدوث ما أراد تجنب حدوثه، أي فقدان الشخص الذي كان يخشى فقدانه، لذا فإنه لمن المفارقة الصارخة أن تكون استثارة تنشأ عن الحب قادرة في الوقت ذاته على تخريبه. وفي هذا الصدد يشير أغلب المهتمين بدراسة العلاقات بين الرجل والمرأة إلى أن الغيرة تسبب تفجرات العنف خصوصاً لدى الرجال. وعلى الرغم من أن الغيرة الجنسية أو العاطفية ليست الدافع الرئيسي في العنف المنزلي فحسب ولكنها أيضاً في مقدمة أسباب جرائم القتل الزواجي على نطاق عالمي، فإن اللوم لا يقع دائماً على الغيرة وإنما على الهذاء أو الاعتقاد الفاسد المرافق لها في أن المحبوب ارتكب خيانة بدون وجود ما يبرر هذا الاعتقاد غالباً.
وتختلف الغيرة عن الحسد فهي تستثار استجابةً لعلاقة ثلاثية، إذ إنها تنشأ عندما تتعرض علاقتك بشخص تحبه أو تهتم به إلى دخول غريم بينكما يهدد بسلبك ما تشعر أنه حقك الخاص، وقد يكون للغريم معالم أو صفات بإمكانها أن تثير أو لا تثير مشاعر الحسد لديك كذلك، ولكن عندما تشعر بالغيرة فإنك لست بحاجة إلى تكوين أية فكرة أو شعور لما يمتلك الشخص الثالث من صفات أو لا يمتلك. أما الحسد، من الناحية الأخرى، فإنه هو الآخر انفعال إلا أنه يخص طرفين؛ الحاسد والمحسود، ويقع غالباً بين الأقران. ويستثار الحسد عندما يقارن الشخص نفسه أو حاله أو ما يملك بشخصية أو بحال أو بما يملك شخص آخر، فإن رجحت كفة الآخر يكون ذلك مدعاة للشعور بعدم الرضا أو الضيق أو النقص أو الإحباط أو الغيظ بعضاً أو كلاً. وبينما تنتمي الغيرة إلى دوافع الجنس ينتمي الحسد إلى دوافع العدوان.
وتسبب الغيرة ألماً بالغ الشدة، ذلك لأن النبذ العاطفي في جميع الأحوال، واقعاً كان أم تصوراً، يؤلم على الدوام ويؤدي إلى حالة من الغليان يصعب انتزاعها من الذهن. والأشخاص الواقعون في قبضة الغيرة يلقون باللائمة على الشريك لما يشعرون به (اختناق) لأنه أظهر اهتماماً بآخرين غيره. ولكن تأثيرات الغيرة تخضع لفروقات فردية كبيرة، إذ إن شواهد آخذة بالظهور تشير إلى أن عناصر في شخصية المرء تؤثر في تكوين بعض تلك التأثيرات؛ إذ يُعتقد بأن الأشخاص الأكثر افتقاراً للشعور الداخلي بالأمن والطمأنينة يمكن أن يكونوا الأكثر بعداً عن الواقع في تقدير المهددات وفي توجيه الاتهامات للآخرين.
وفي بحث شمل (1000) شخص في مراحل متفاوتة من الالتزام بعلاقة زواج أو خطوبة أو مواعدة أو عزوبة، وجد ديفيد بوص وزملاؤه أن ميل الشخص للغيرة ذو علاقة بامتلاكه عاملاً وافتقاره لعامل آخر مما يطلق عليه " العوامل الخمسة الكبرى للشخصية"، أما العامل الذي يمتلكه فهو العصابوية، والذي يجعل الشخص ذا انفعالات سلبية مثل الغضب والقلق والحزن ويغلب عليه عدم الاستقرار الانفعالي وفقدان الطمأنينة والميل إلى تأويل المواقف الاعتيادية على أنها مهددة والإحباطات البسيطة على أنها مصائب مأساوية، وهذا الخلل في المنظومة الانفعالية يمكن أن يؤثر سلباً في وضوح التفكير واتخاذ القرارات، وكلما زاد تأثير هذا العامل زاد الميل نحو الغيرة. أما العامل الذي يفتقر له فهو المقبولية، والذي يكون فيه الشخص متعاطفاً ومتعاوناً مع الآخرين ويأخذهم بعين الاعتبار ويتصف بدفء المشاعر والكرم والميل للمساعدة والاستعداد للتخلي عن بعض منافعه لمصلحة الآخرين ولديه اعتقاد بأن البشر في جوهرهم طيبون وجديرون بالثقة، وغني عن البيان أن الافتقار لمثل هذه الصفات يهيئ الشخص أكثر من سواه للوقوع في شراك الغيرة. وهذان العاملان، كما هو حال باقي العوامل الأخرى، بحسب وجهة نظر بعض السيكولوجيين المعرفيين يتأثران بالوراثة والبيئة، بما في ذلك الخبرات المبكرة، بنسب متساوية تقريباً.
وتشير التجربة السريرية إلى أن الأشخاص الذين تكون الغيرة لديهم سمة شديدة ودائمة الحضور يعجزون عن إقامة علاقة حب أصيلة، إذ إن كل علاقاتهم بالآخرين يخالطها قدر متفاوت من المطالب والاحتياجات التي تنبع من رغبات نرجسية أنانية. وغالباً ما تواجه علاقاتهم مصاعب في تحقيق قدر مناسب من الحميمية لأنها تستند إلى أرض هشة من التناقض العاطفي. والتمسك الأناني النرجسي باحتياز (تملك) الموضوع المحبوب يؤدي نفس وظيفة احتياز أي موضوع آخر فيما يخص مكانة الذات ( أن أملك فأنا على ما يرام؛ أو إن كان هناك مصدر يعطي بلا توقف فأنا على ما يرام). وهكذا نجد أن البيئة الاجتماعية التي تشجع الفكرة القائلة بأن أحد الزوجين هو ملك للآخر ترجح احتمال زيادة معدلات الغيرة المتولدة عن كونها وسيلة للدفاع عن مكانة الذات، وليس في حقيقة الأمر للدفاع عن العلاقة بحد ذاتها. لذا يمكن أن تستثار غيرة رجل لا يقيم لزوجته وزناً ولا تربطه بها أية مشاعر ودية عندما يوجه لها شخص آخر نظرة اشتهاء، هنا المسألة المركزية تتمحور حول إمكانية التعرض إلى الهزيمة أمام غريم محتمل، وفي هذه الحالة فإن الغيرة هي نتاج لمخاوف أنانية شخصية تتمحور حول خدش كبرياء الذات وليست نتيجة للحب. فضلاً عن أن الغيرة يمكن أن تكون استجابة لعوامل من قبيل عدم تكافؤ الشريكين أو ما يطلق عليه السيكولوجيون النشوئيون "قيمة الشريك"، كأن يكون أحد الشريكين أكثر جاذبية من الآخر، أو عندما يحافظ أحد الشريكين، نتيجة لمصادفة جينية محضة، على مظهر أكثر شباباً بكثير من الآخر.
وتتمثل أبرز مفارقات الغيرة في كوننا بدون استثناء نرغب في بعضٍ منها، لأننا نعدّها، فضلاً عن أمور أخرى، مقياساً للالتزام، ونرى في جرعاتها الصغيرة تعبيراً عن الاهتمام. والغيرة توظَف مؤشراً في اختبار ما إذا كان استثمار المزيد من المشاعر آمناً، ويعد الاستثمار آمناً عندما يكون الشخص مهتماً بما يكفي ليكون مستعداً للتضحية براحة باله، وإن لم يكن كذلك فإن الاستثمار يمكن ألاّ يكون آمناً. لذا ما أن أصبحت الغيرة جزءاً من منظومة الانفعالات لدى البشر لم يعد بمقدور أحد القول بأنها لا يمكن استخدامها "سوقياً". وفي واقع الحال، فإن 40% من النساء يتعمّدن إثارة بعض الغيرة لدى شركائهن للحصول على مؤشرات حول مدى متانة العلاقة، بحسب دراسة أجراها بوص، فضلاً عن كونها طريقة يمكن استخدامها لزيادة مرغوبية الشخص في عيني شريكه. والرجال يفعلونها كذلك ولكن أقل كثيراً من النساء. والمفاجأة تكمن في سهولة التقاط الطعم من قبل الرجل الذي لا يكون، في أغلب الأحيان، واعياً لما يحدث من تلاعب بمشاعره.
الآن، ما العمل عندما تكون في قبضة الغيرة ؟ هناك خطوات بإمكانك اتخاذها لاحتواء الغيرة ومنعها من إفساد العلاقة مع الشريك، ومنها:
1. تذكر ابتداءً أن للغيرة، على الرغم من سمعتها السيئة، جانباً إيجابياً إذ إنها تصدر تلميحات تحثُّ المرء على النظر إلى داخله وتدعوه إلى إصلاح ما أمكن من مشاعر وقناعات موجهة نحو الذات، وهذا من شأنه، بالتالي، إدامة العلاقات وتنميتها بدلاً من تخريبها. فالغيرة كما يبدو تقول عن صاحبها أكثر بكثير مما تقوله عن تصرف أو سوء تصرف الشريك.
2. للتأمين المسبق ضد الغيرة وترصين العلاقة ورعايتها خذ وقتاً لتكونا معا، وأمضِيا وقتاً للتحدث مع بعضكما عندما تكونان في مكانين مختلفين. ومن المهم مشاركة عالميكما الداخليين مع بعضكما بعضاً.
3. اتخذ قراراً فيما إذا كنت تريد مواجهة شكوكك أم لا. إن كنت تشعر بأن الشكوك تتآكلك ويغلب عليك الهم أو تشعر بالضيق أو إنك مُحتازاً متملِّكا أو مهدِداً ولست متيقناً من شريكك، أو على العكس إن كنت تشعر بأنك محشور في زاوية ومسيطر عليك أو مقيد أو ملوم من قبل شريكك، يستحسن أن لا تطلق لافتراضاتك ومشاعرك عنانها لتجول وتصول في داخلك، ناقشها وتأكد من دقتها مع شريكك، ولكن عليك أولاً أن تتأمل وتراجع ملياً كيف ستصوغ أفكارك في كلمات، والهدف هو فتح الباب لحوار يتجنب المواجهة ويكون حواراً بناءً وليس لوّاماً. ولكي لا يتخذ الشريك موقفاً دفاعياً يطيل الجدال استخدم عبارات تبدأ ب " أنا " وليس " أنت".
4. شخّصْ سلوكاً على وجه التعيين صدر أو يصدر عن شريكك ويسبب لك الضيق، ويفضل أن يكون ذلك أثناء جلسة هادئة تتشاركان فيها فنجاناً من الشاي أو القهوة في مكان خارج البيت، واشرح له كيف يجعلك ذلك السلوك تشعر.
5. معرفة كيفية التعبير لفظياً عن الأمور التي تزعجك وتضايقك أمر بالغ الأهمية، والصياغة اللفظية المناسبة تتضمن ثلاثة أركان " لقد لاحظت..." (بأنك كنت صامتاً طوال الوقت، أو بأنك حييت فلانة بحرارة عند اللقاء بها في منزل أقاربنا الليلة الماضية) و" أنا افترض / أخمن أن ذلك يعني...." (بأنك كنت منزعجاً من شيء ما، أو بأنك كنت ودوداً لا أكثر) و" إني أتساءل... " (ما الأمر إن كان بإمكانك اطلاعي عليه ؟ أو هل هناك أكثر من ذلك؟).
6. توقف عن الكلام للتأكد من أن شريكك منصت إليك، ولكي تعطيه وقتاً للاستجابة.
المصدر : الباحثون العدد 41 - تشرين الثاني 2010
لوقت طويل عدت الغيرة حارسة للحب ولكنها في كثير من الأحوال تؤدي إلى اغتياله. إذ تدفعنا الغيرة نموذجياً إلى الانزعاج ومن ثم لوم الخطيب (الخطيبة أو الزوج) الزوجة ( للسهولة سنسميهما الشريك أو الشريكة في هذه المقالة) عندما يحظى شخص آخر بانتباههم، ولكن الجانب الأهم في الغيرة يكمن فيما يمكن أن تكشفه لنا عن دواخلنا...
الآنسة مهى شابه تعمل في شركة متعددة الفروع، ومن خلال عملها التقت بباسم وهو شاب يعمل في فرع آخر من فروع الشركة، وقد استلطفا بعضهما، وبعد أيام من تعارفهما أخذت باقات من الورود تصل إلى مهى في مكتبها، وكانت هدايا باسم المفاجئة تلك موضع سرورها رغم نظرات التساؤل من الزملاء والزميلات في المكتب. ولاحظت مهى أن باسم يقوم كذلك بزيارات مفاجئة إلى مكتبها، فضلا عن قيامه بإجراء اتصالات هاتفية متكررة تعقب وصول تلك الباقات للتأكد من وصولها والاستفسار عما تتركه من انطباعات في المكتب أو لمجرد سماع صوتها. وإن لم تكن مهى في مكتبها فإن المكالمات تحول إلى واحدة من زميلاتها اللواتي لم يكن يخفين انزعاجهن من ذلك. تقول مهى متذكرة: " كان لباسم ابتسامة طبيعية لافتة للانتباه وجانب عفوي محبب في تصرفاته، وكان ذلك يروق لي في بادئ الأمر وقادني إلى الظن في إنه غارق لأذنيه في الحب. ولكني أخذت أدرك تدريجياً بأن الغرض الخفي من باقات الزهور كان للتأكد من مكان تواجدي أثناء ساعات العمل، وبدأت ألاحظ بأن صوته كان يتفجر حنقاً إن سمع ما لا يرغب سماعه، ولقد أخافني ذلك كثيراً. وذات يوم صحوت وأنا أفكر مع نفسي لماذا أصبحت هذه العلاقة وكأنها سجن؟ وعندها اقتنعت بأن عليّ إنهاء العلاقة ونفذت قراري على الفور".
وعدا عن تكراره إرسال باقات الورود، فإن باسم أظهر كثيراً من العلامات النوعية للغيرة، أي خشية فقدان المحبوب، مثل فقدان الثقة، والغضب من إبداء الاهتمام الواقعي أو المتصور بشخص آخر والحاجة إلى السيطرة على المحبوب. وحتى إهداء الزهور هنا والذي يبدو ظاهرياً سياقاً شائعاً للتعبير عن التقدير للشريك وإظهار الاهتمام به، فإن دافعه الرئيسي كان الغيرة، ويبدو ذلك وكأنه استثناء للقاعدة لأن أغلبنا ميال أكثر إلى ربط الغيرة بالمواقف والسلوكيات السلبية مثل المراقبة والترصد واستخدام العنف.
لا أحد، في حقيقة الأمر، قادر على تعرف ماهية الغيرة تحديداً، إذ إنها تبقى عصية على التعريف كما هو حال باقي الانفعالات، فضلاً عن كونها انفعال مركب فهي تتضمن، بحدها الأدنى، مشاعر مختلطة ذات علاقة بالخوف والهجر والنبذ والفقدان والتأسي والأسف والغضب والخيانة والخديعة والإهانة، وتجند مجموعة من العمليات المعرفية المنحرفة تتأرجح من الشك إلى الانشغال إلى الانهماك بموضوع إخلاص الشريك أو الشريكة، وهي تستمد عنفوانها البدائي من تفعيل نسق التعلق في الدماغ، وهو حلقة مبرمجة جينياً تؤلف الأساس لأواصرنا الأسرية والاجتماعية، والتي تستثير فينا كدراً واسع النطاق عندما تُهدد تلك الأواصر بالانفصام.
وبحسب ديفيد بوص، الباحث في جامعة تكساس واحد من أبرز الدارسين للغيرة، فإن الغيرة هي انفعال ضروري لأنها رادع ممكن لخيانة محتملة من قبل الشريك عندما تتعرض العلاقات الحميمة لخطر ماثل، وبالنظر لأن البشر أمضوا معظم تاريخهم النشوئي يعيشون في مجموعات صغيرة فقد كان للغيرة تأثير هام، على ما يبدو، في الحيلولة دون خروج الشريك عن الطريق القويم. إذ عندما يتحدث الشريك مع امرأة جميلة في مناسبة اجتماعية، في سبيل المثال، ويبتسم لها بإعجاب، فإن ذلك معناه بالنسبة لشريكته بأن غريمةً قد تجسدت، وبأن تهديداً من لحم ودم أضحى يحذرها من إمكانية فقدان ما كانت تظنه لها. وهذا معناه أن كل ما استثمرته مع شريكها من مشاعر وموارد وما نتج عن العلاقة من أبناء يصبح عرضة لخطر الضياع. لذا فإن الغيرة، كما يُجمع الخبراء، مع بعض الاختلاف في التفاصيل، تعد آلية بقائية. وبغض النظر عن كونها العاطفة الأكثر تخريباً، إذ تأتي في صدارة الدوافع المؤدية إلى جرائم القتل عمداً، وعن كونها الأقل من بين الانفعالات حظاً في الدراسة، فهي، على الأرجح، وليدة الحاجة وذات جذور تضرب عميقاً في ماضينا النشوئي، وهدفها هو المساعدة في إدامة علاقاتنا الحميمة وبالتالي التكاثر مع ضمان توفير الرعاية المناسبة للأبناء بما يؤدي إلى تحسين فرصهم بدورهم في التكاثر والمساهمة في استمرار النوع.
وعند الحديث عن الانفعالات قد لا يكون من السهل وضع معايير دقيقة لما هو سوى وغير سوي، ولكن يمكن القول إن خير الأمور أوسطها، بمعنى أن قدراً مناسباً من الغيرة التي تظهر في ظروف خاصة قد يتوافق مع حقيقة مشاعر الحب التي نكنها نحو المحبوب الذي نغار عليه من الآخرين. والغيرة لا يمكن أن تكون سمة بارزة في علاقة تتوفر فيها محبة الشريك المتبادلة والرضا عنه ويتحقق فيها قدر من الإشباع العاطفي المناسب للطرفين. ولكن في أحيان كثيرة، يكون تفجر مشاعر الغيرة من الشدة بحيث يبدو وكأنه أحدث ثقباً في الدماغ من شأنه طمس معالم التفكير المنطقي والواقعي ودفع المرء نحو سلوكيات متولدة عن نبوءات لا تتطابق إلا مع مخيلته ولا تؤدي سوى إلى حدوث ما أراد تجنب حدوثه، أي فقدان الشخص الذي كان يخشى فقدانه، لذا فإنه لمن المفارقة الصارخة أن تكون استثارة تنشأ عن الحب قادرة في الوقت ذاته على تخريبه. وفي هذا الصدد يشير أغلب المهتمين بدراسة العلاقات بين الرجل والمرأة إلى أن الغيرة تسبب تفجرات العنف خصوصاً لدى الرجال. وعلى الرغم من أن الغيرة الجنسية أو العاطفية ليست الدافع الرئيسي في العنف المنزلي فحسب ولكنها أيضاً في مقدمة أسباب جرائم القتل الزواجي على نطاق عالمي، فإن اللوم لا يقع دائماً على الغيرة وإنما على الهذاء أو الاعتقاد الفاسد المرافق لها في أن المحبوب ارتكب خيانة بدون وجود ما يبرر هذا الاعتقاد غالباً.
وتختلف الغيرة عن الحسد فهي تستثار استجابةً لعلاقة ثلاثية، إذ إنها تنشأ عندما تتعرض علاقتك بشخص تحبه أو تهتم به إلى دخول غريم بينكما يهدد بسلبك ما تشعر أنه حقك الخاص، وقد يكون للغريم معالم أو صفات بإمكانها أن تثير أو لا تثير مشاعر الحسد لديك كذلك، ولكن عندما تشعر بالغيرة فإنك لست بحاجة إلى تكوين أية فكرة أو شعور لما يمتلك الشخص الثالث من صفات أو لا يمتلك. أما الحسد، من الناحية الأخرى، فإنه هو الآخر انفعال إلا أنه يخص طرفين؛ الحاسد والمحسود، ويقع غالباً بين الأقران. ويستثار الحسد عندما يقارن الشخص نفسه أو حاله أو ما يملك بشخصية أو بحال أو بما يملك شخص آخر، فإن رجحت كفة الآخر يكون ذلك مدعاة للشعور بعدم الرضا أو الضيق أو النقص أو الإحباط أو الغيظ بعضاً أو كلاً. وبينما تنتمي الغيرة إلى دوافع الجنس ينتمي الحسد إلى دوافع العدوان.
وتسبب الغيرة ألماً بالغ الشدة، ذلك لأن النبذ العاطفي في جميع الأحوال، واقعاً كان أم تصوراً، يؤلم على الدوام ويؤدي إلى حالة من الغليان يصعب انتزاعها من الذهن. والأشخاص الواقعون في قبضة الغيرة يلقون باللائمة على الشريك لما يشعرون به (اختناق) لأنه أظهر اهتماماً بآخرين غيره. ولكن تأثيرات الغيرة تخضع لفروقات فردية كبيرة، إذ إن شواهد آخذة بالظهور تشير إلى أن عناصر في شخصية المرء تؤثر في تكوين بعض تلك التأثيرات؛ إذ يُعتقد بأن الأشخاص الأكثر افتقاراً للشعور الداخلي بالأمن والطمأنينة يمكن أن يكونوا الأكثر بعداً عن الواقع في تقدير المهددات وفي توجيه الاتهامات للآخرين.
وفي بحث شمل (1000) شخص في مراحل متفاوتة من الالتزام بعلاقة زواج أو خطوبة أو مواعدة أو عزوبة، وجد ديفيد بوص وزملاؤه أن ميل الشخص للغيرة ذو علاقة بامتلاكه عاملاً وافتقاره لعامل آخر مما يطلق عليه " العوامل الخمسة الكبرى للشخصية"، أما العامل الذي يمتلكه فهو العصابوية، والذي يجعل الشخص ذا انفعالات سلبية مثل الغضب والقلق والحزن ويغلب عليه عدم الاستقرار الانفعالي وفقدان الطمأنينة والميل إلى تأويل المواقف الاعتيادية على أنها مهددة والإحباطات البسيطة على أنها مصائب مأساوية، وهذا الخلل في المنظومة الانفعالية يمكن أن يؤثر سلباً في وضوح التفكير واتخاذ القرارات، وكلما زاد تأثير هذا العامل زاد الميل نحو الغيرة. أما العامل الذي يفتقر له فهو المقبولية، والذي يكون فيه الشخص متعاطفاً ومتعاوناً مع الآخرين ويأخذهم بعين الاعتبار ويتصف بدفء المشاعر والكرم والميل للمساعدة والاستعداد للتخلي عن بعض منافعه لمصلحة الآخرين ولديه اعتقاد بأن البشر في جوهرهم طيبون وجديرون بالثقة، وغني عن البيان أن الافتقار لمثل هذه الصفات يهيئ الشخص أكثر من سواه للوقوع في شراك الغيرة. وهذان العاملان، كما هو حال باقي العوامل الأخرى، بحسب وجهة نظر بعض السيكولوجيين المعرفيين يتأثران بالوراثة والبيئة، بما في ذلك الخبرات المبكرة، بنسب متساوية تقريباً.
وتشير التجربة السريرية إلى أن الأشخاص الذين تكون الغيرة لديهم سمة شديدة ودائمة الحضور يعجزون عن إقامة علاقة حب أصيلة، إذ إن كل علاقاتهم بالآخرين يخالطها قدر متفاوت من المطالب والاحتياجات التي تنبع من رغبات نرجسية أنانية. وغالباً ما تواجه علاقاتهم مصاعب في تحقيق قدر مناسب من الحميمية لأنها تستند إلى أرض هشة من التناقض العاطفي. والتمسك الأناني النرجسي باحتياز (تملك) الموضوع المحبوب يؤدي نفس وظيفة احتياز أي موضوع آخر فيما يخص مكانة الذات ( أن أملك فأنا على ما يرام؛ أو إن كان هناك مصدر يعطي بلا توقف فأنا على ما يرام). وهكذا نجد أن البيئة الاجتماعية التي تشجع الفكرة القائلة بأن أحد الزوجين هو ملك للآخر ترجح احتمال زيادة معدلات الغيرة المتولدة عن كونها وسيلة للدفاع عن مكانة الذات، وليس في حقيقة الأمر للدفاع عن العلاقة بحد ذاتها. لذا يمكن أن تستثار غيرة رجل لا يقيم لزوجته وزناً ولا تربطه بها أية مشاعر ودية عندما يوجه لها شخص آخر نظرة اشتهاء، هنا المسألة المركزية تتمحور حول إمكانية التعرض إلى الهزيمة أمام غريم محتمل، وفي هذه الحالة فإن الغيرة هي نتاج لمخاوف أنانية شخصية تتمحور حول خدش كبرياء الذات وليست نتيجة للحب. فضلاً عن أن الغيرة يمكن أن تكون استجابة لعوامل من قبيل عدم تكافؤ الشريكين أو ما يطلق عليه السيكولوجيون النشوئيون "قيمة الشريك"، كأن يكون أحد الشريكين أكثر جاذبية من الآخر، أو عندما يحافظ أحد الشريكين، نتيجة لمصادفة جينية محضة، على مظهر أكثر شباباً بكثير من الآخر.
وتتمثل أبرز مفارقات الغيرة في كوننا بدون استثناء نرغب في بعضٍ منها، لأننا نعدّها، فضلاً عن أمور أخرى، مقياساً للالتزام، ونرى في جرعاتها الصغيرة تعبيراً عن الاهتمام. والغيرة توظَف مؤشراً في اختبار ما إذا كان استثمار المزيد من المشاعر آمناً، ويعد الاستثمار آمناً عندما يكون الشخص مهتماً بما يكفي ليكون مستعداً للتضحية براحة باله، وإن لم يكن كذلك فإن الاستثمار يمكن ألاّ يكون آمناً. لذا ما أن أصبحت الغيرة جزءاً من منظومة الانفعالات لدى البشر لم يعد بمقدور أحد القول بأنها لا يمكن استخدامها "سوقياً". وفي واقع الحال، فإن 40% من النساء يتعمّدن إثارة بعض الغيرة لدى شركائهن للحصول على مؤشرات حول مدى متانة العلاقة، بحسب دراسة أجراها بوص، فضلاً عن كونها طريقة يمكن استخدامها لزيادة مرغوبية الشخص في عيني شريكه. والرجال يفعلونها كذلك ولكن أقل كثيراً من النساء. والمفاجأة تكمن في سهولة التقاط الطعم من قبل الرجل الذي لا يكون، في أغلب الأحيان، واعياً لما يحدث من تلاعب بمشاعره.
الآن، ما العمل عندما تكون في قبضة الغيرة ؟ هناك خطوات بإمكانك اتخاذها لاحتواء الغيرة ومنعها من إفساد العلاقة مع الشريك، ومنها:
1. تذكر ابتداءً أن للغيرة، على الرغم من سمعتها السيئة، جانباً إيجابياً إذ إنها تصدر تلميحات تحثُّ المرء على النظر إلى داخله وتدعوه إلى إصلاح ما أمكن من مشاعر وقناعات موجهة نحو الذات، وهذا من شأنه، بالتالي، إدامة العلاقات وتنميتها بدلاً من تخريبها. فالغيرة كما يبدو تقول عن صاحبها أكثر بكثير مما تقوله عن تصرف أو سوء تصرف الشريك.
2. للتأمين المسبق ضد الغيرة وترصين العلاقة ورعايتها خذ وقتاً لتكونا معا، وأمضِيا وقتاً للتحدث مع بعضكما عندما تكونان في مكانين مختلفين. ومن المهم مشاركة عالميكما الداخليين مع بعضكما بعضاً.
3. اتخذ قراراً فيما إذا كنت تريد مواجهة شكوكك أم لا. إن كنت تشعر بأن الشكوك تتآكلك ويغلب عليك الهم أو تشعر بالضيق أو إنك مُحتازاً متملِّكا أو مهدِداً ولست متيقناً من شريكك، أو على العكس إن كنت تشعر بأنك محشور في زاوية ومسيطر عليك أو مقيد أو ملوم من قبل شريكك، يستحسن أن لا تطلق لافتراضاتك ومشاعرك عنانها لتجول وتصول في داخلك، ناقشها وتأكد من دقتها مع شريكك، ولكن عليك أولاً أن تتأمل وتراجع ملياً كيف ستصوغ أفكارك في كلمات، والهدف هو فتح الباب لحوار يتجنب المواجهة ويكون حواراً بناءً وليس لوّاماً. ولكي لا يتخذ الشريك موقفاً دفاعياً يطيل الجدال استخدم عبارات تبدأ ب " أنا " وليس " أنت".
4. شخّصْ سلوكاً على وجه التعيين صدر أو يصدر عن شريكك ويسبب لك الضيق، ويفضل أن يكون ذلك أثناء جلسة هادئة تتشاركان فيها فنجاناً من الشاي أو القهوة في مكان خارج البيت، واشرح له كيف يجعلك ذلك السلوك تشعر.
5. معرفة كيفية التعبير لفظياً عن الأمور التي تزعجك وتضايقك أمر بالغ الأهمية، والصياغة اللفظية المناسبة تتضمن ثلاثة أركان " لقد لاحظت..." (بأنك كنت صامتاً طوال الوقت، أو بأنك حييت فلانة بحرارة عند اللقاء بها في منزل أقاربنا الليلة الماضية) و" أنا افترض / أخمن أن ذلك يعني...." (بأنك كنت منزعجاً من شيء ما، أو بأنك كنت ودوداً لا أكثر) و" إني أتساءل... " (ما الأمر إن كان بإمكانك اطلاعي عليه ؟ أو هل هناك أكثر من ذلك؟).
6. توقف عن الكلام للتأكد من أن شريكك منصت إليك، ولكي تعطيه وقتاً للاستجابة.