كيف تصنع رؤية لمؤسستك؟ 1


مصطفى كريم
"لا ينبغي لنا أن نتوقف عن الاستكشاف، وإن نهاية استكشافنا سيكون الوصول من حيث بدأنا"
ت.س. إليوت
تمتلك الشركات التي حققت نجاحات مستمرة مجموعة من القيم الجوهرية والأغراض الأساسية وهي أمور ظلت ثابتة بينما كانت استراتيجات الأعمال والممارسات تتكيف مع العالم المتغير بشكل لا نهائي...

إن الحفاظ على هذا الجوهر في نفس الوقت الذي يتم فيه إحداث تطور هو السبب الذي مكَّن شركات مثل هيوليت بيكارد (Hp) وثري إم (3M) وجونسون أند جونسون، وبروكتر أند جامبل، وميرك، وسوني وموتورولا ونورد ستورم من بقائها ضمن مؤسسات النخبة ومكنتها أيضًا من تجديد نفسها وإنجاز معدلات متفوقة من الأداء طويل الأمد.
لقد أدرك موظفو هيوليت بيكارد أن التغييرات الجذرية في ممارسات التشغيل، وقواعد ثقافة المؤسسة، واستراتيجيات الأعمال لا تعني التخلي عن روح وطريقة إتش بي (Hp) أو بمعنى آخر التخلي عن المبادئ الجوهرية للشركة، ولطالما دارت النقاشات في جونسون أند جونسون حول تركيبتها وتجديد عملياتها بينما كانت محافظة على المثل المجسدة في عقيدتها الإدارية.
قد قامت شركة (3M) بتصفية العديد من شركاتها العملاقة ـ في خطوة دراماتيكة أذهلت الصحافة الاقتصادية ـ وذلك من أجل التركيز على الغرض الأساسي والجوهري وهو حل المشكلات بطريقة ابتكارية.
لقد قام كل من جيمس س. كولنز  وجيري أيه. بوراس بدارسة شركات مثل تلك في بحثهما (أنشأت لتبقى: عادات النجاح للشركات ذات الرؤية)، ووجدا أنها تفوقت على سوق الأسهم بمعدل 12 منذ 1925م.
أهمية الرؤية:
يقول دينيس ويتلي: (لا يمكن لأي شيء على الأرض أن يوقف شخصًا ذا موقف إيجابي وهدفه واضح الرؤية)، فهذه الرؤية هي التي ستقفز بك ـ إن شاء الله ـ فوق الحواجز.
وفي نفس الوقت، لو تركنا جزئيات العمل تستولي علينا ونسينا أن نضع لمؤسساتنا رؤية فسوف نصبح نحن جزءًا من رؤية الآخرين وأحلامهم؛ وذلك لأن (الذين فقدوا الرؤية الواضحة لمستقبلهم كأنهم ألقوا أنفسهم في تيار نهر جارف، فهم مندفعون معه لا يعرفون وجهتهم.
لقد فقدوا دفة القيادة وسلموا أمرهم لهذا التيار المندفع يوجههم كيف شاء، حتى إذا ما سار التيار بهم بعيدًا بعيدًا، وأصبحوا على مفترق طرق كثيرة لهذا التيار، حاروا في أي مجرى يسبحون؟! ومع أي ماء يدفعون؟! أي مجاري الأنهار ستكون الآمنة؟! وأي منها يدفعهم إلى شلال الموت؟! لقد علموا الآن يقينًا أنهم فقدوا السيطرة).
ولذا؛ تدرك الشركات العظيمة حقًا الاختلاف بين ما لا ينبغي تغييره وما هو متاح للتغيير، ما هو مقدس وما ليس بذلك، وهذه المقدرة النادر في كيفية إدارة الاستقرار والتغيير ـ والتي تحتاج إلى انضباط واعٍ ـ تتصل بشكل مباشر بالقدرة على إنشاء وصناعة رؤية، تلك الرؤية التي تمثل دليلًا يرشدنا إلى ما هو أصيل وجوهري لنحافظ عليه، وما هي الأمور المستقبلية التي لابد من التقدم نحوها.
ومن خلال تلك السلسلة سنتعرف إن شاء الله على تعريف الرؤية ومكوناتها، وعلى أقسام تلك الرؤية، وكيف لنا أن نصنع لمؤسساتنا رؤية مستقبلية ثاقبة تحقق النجاح الأكيد والاستمرارية.
مكونات الرؤية:
ولكن أصبحت كلمة (الرؤية) من أكثر الكلمات استخدامًا وأقلها فهمًا، فهي تستحضر صور مختلفة للأشخاص المختلفة، مثل: القيم العميقة، أو الإنجازات العظيمة، أو الرباط المجتمعي، أو الأهداف المبهجة، أو القوى المحفزة، أو أسباب وجودنا.
ولذا فإن هناك إطارًا مفاهيميًا لتعريف الرؤية، يضفي وضوحًا وصرامة للمفاهيم المبهمة والغامضة التي تحوم حول المصطلح العصري، وتعطي دليلًا عمليًا لتوضيح الرؤية المتماسكة داخل المنظمة، فهو إطار إلزامي تجذر من خلال 6 سنوات من بحث "كولنز وبوراس" وتم صقله واختباره من خلال أعمالهم الجارية مع المدراء التنفيذيين في مجموعة متميزة من المنظمات حول العالم.
تتكون الرؤية المتصورة بشكل جيد من مكونين رئيسيين:
1.   الإيدولوجية الجوهرية: تعبر عما نمثله وما هو سبب تواجدنا، فهو الجزء غير المتغير.
2. المستقبل المنتظر: هو ما نأمل أن نكون، وما نسعى إلى إنجازه، لكي نصنع شيئًا يحتاج إلى عمل تغيير هام وتطور من أجل تحقيقه، فهو الجزء المتغير.
أولًا ـ الإيدولوجية الجوهرية:
تمثل الإيدلوجية الجوهرية الشخصية الثابتة للمنظمة ـ فهي الهوية المتماسكة التي تتجاوز دورة حياة منتج أو سوق ما، أو التطورات التكنولوجية، البدع أو الموضات الإدارية، والقادة المميزين، في الحقيقة إن المساهمة المستمرة والجوهرية التي يضفيها مؤسسو الشركات ذوات الرؤية هي الإيدولوجية الجوهرية.
فإن مؤسسي شركات مثل: ديفيد بيكارد، وماسارو إيبوكا مؤسس سوني، و جورد ميريك مؤسس ميريك، وويليام ماكنايت مؤسس ثري إم، وبول جالفين مؤسس موتورولا يدركون أن الاهم هو أن تعرف من أنت قبل أن تحدد في أي وجهة ستسير، فإن تحديد أين ستسير أمر يتغير بتغير العالم من حولك، فإن القادة يموتون، والمنتجات تصبح مهجورة، والأسواق تتغير، والتكنولوجيا الحديثة تظهر، والموضات الإدارية تظهر وتندثر، ولكن الإيدولوجية الجوهرية تظل مصدرًا للإرشاد والإلهام.
شركة Hp والإيدولوجية الجوهرية:
قال بيل هويليت عن صديق عمره وشريكه ديفيد بيكارد عند موته: (بقدر ما ستستمر لهذه الشركة قيمتها، سيظل الأمر العظيم الذي خلفه هذا الرجل وراءه هو مدونة القيم التي عرفت باسم "طريق إتش بي" أو "Hp Way").
فإن الإيدولوجية الجوهرية لشركة إتش بي ـ والتي كانت دليلًا للشركة منذ نشأتها ولأكثر من خمسين سنة ـ تتضمن احترامًا شديدًا للأفراد، وتكريس للجودة والدقة رخيصة الثمن، والالتزام بالمسئولية الاجتماعية (بيكارد تبرع بميراثه وهو حصته في شركة بيكارد 4.3 بليون دولارًا لمؤسسة خيرية)، ووجهة النظر القائلة بأن الشركة قائمة لتقديم مساهمات تقنية لتطور ورفاهية الإنسانية.
أهمية الإيدولوجية الجوهرية:
توفر الإيدولوجية الجوهرية مادة لاصقة تجمع أجزاء المنظمة أثناء نموها، وتحولها إلى اللامركزية، و تنوعها وانتشارها، فيمكن اعتبارها مثل الحقائق التي تمثل دلائل شخصية من أجل إعلان الاستقلال، أو هي المثل والمبادئ الخاصة بالمجتمعات العلمية التي تجمع العلماء من كل الجنسيات من أجل هدف مشترك وهو تقدم المعرفة الإنسانية.
أقسام الإيدولوجية الجوهرية:
ولذا يجب على كل رؤية فعالة أن تجسد الإيدولوجية الجوهرية الخاصة بالمؤسسة، والتي تنقسم بدورها إلى جزئين رئيسيين:
1.   القيم الجوهرية: هي نظام للمبادئ الإرشادية.
2.   الغرض الجوهري: هو السبب الأصيل لتواجد المنظمة.
القيم الجوهرية:
هي المبادئ الحيوية والمستمرة للمنظمة، فهي مجموعة من المبادئ الإرشادية غير المقيدة بزمن معين، فهي لا تحتاج إلى مسوغات خارجية، فهي مجموعة من القيم الهامة للعاملين داخل المنظمة، فالقيم الجوهرية لشركة والت ديزني مثل الخيال والحكمة لا تنبع من احتياجات السوق وإنما من القيم الداخلية للمؤسسين حيث رأوا ضرورة رعاية الخيال والحكمة.
وتركيز كل من ويليام بروكتر وجيمس جامبل على تميز المنتج لم يكن استراتيجية للنجاح ولكنه كان مبدأ دينيًا، ظل هذا المبدأ يتنقل لأكثر من 15 عقدًا من الزمن بواسطة العاملين والإداريين في بروكتر أند جامبل.
تقديم الخدمة إلى العميل إلى حد التذلل له هي طريقة حياة عند شركة نوردستورم والتي تعود جذورها إلى عام 1901م، أي ثمانية عقود قبل شيوع برامج خدمة العملاء، واحترام الأفراد عند بيل هيوليت وديفيد بيكارد يأتي في المقام الأول ويمثل قيمة إنسانية عميقة، وهذه القيمة لم يقتبساها من كتاب أو يسمعاها من معلم إداري.
يقول رالف إس. لارسين، رئيس مجلس إدارة شركة جونسون أند جونسون: (قد تكون القيم الجوهرية المتجسدة في عقيدتنا الإدارية ميزة تنافسية، ولكن ليس هذا هو سبب التزامنا بها، وإنما لأنها تعرفنا بما يمثلنا، وسوف نحمل تلك القيم حتى وإن أصبحت ضررًا في مواقف معينة).
النقطة الأهم هي أن الشركات العظيمة هي التي تقرر بنفسها أي القيم سوف تكون جوهرية، وذلك بصورة مستقلة عن البيئة الحالية، والمتطلبات التنافسية، أو الموضات والبدع الإدارية، فليس هناك مجموعة شاملة وصحيحة للقيم الجوهرية، فقد لا تحتاج بعض الشركات لجعل قيمها الجوهرية تتضمن الآتي: خدمة العملاء (مثل سوني)، أو الاهتمام بالأفراد (مثل ديزني)، أو الجودة (محلات والمارت)، أو التركيز على السوق (مثل إتش بي)، أو فرق العمل (مثل نوردستورم).
فقد يكون لدى الشركة ممارسات تشغيلية واستراتيجيات لأعمالها دون أن تكون هذه الممارسات وتلك الاستراتيجيات جزءًا من جوهر وجودها، بل قد لا تحتاج الشركات العظيمة إلا قيم جوهرية إنسانية أو محبوبة مثلما يفعل الكثيرون، فالنقطة الأهم ليست ما هي القيم الجوهرية التي تمتلكها المنظمة، ولكن أن يكون لها قيمًا جوهرية.
أمثلة على القيم الجوهرية:
تسعى الشركات إلى وضع عدد قليل من القيم الجوهري، غالبًا ما يتراوح بين الثلاثة أو الخمسة، ففي الحقيقة لم نجد في الشركات ذات الرؤية التي درسناها في هذا الكتاب قد وضعت أكثر من خمس قيم جوهرية، والمعظم لديه أربع أو ثلاث قيم، فإن القليل من القيم يمكن اعتباره جوهريًا بحق، ولذا انظر الجدول التالي الذي يوضح "القيم الجوهرية مبادئ أساسية للشركة":
القيم الجوهرية هي مبادئ الشركة الأساسية
شركة نورد ستورم:
·  خدمة العميل أولًا وقبل كل شيء.
·  العمل الشاق والإنتاجية العالية للفرد.
·  لا مجال للقناعة والرضا بمستوى العمل.
·  السمعة الممتازة؛ أن نكون جزءًا من عمل مميز.
شركة فيليب موريس:
·       الحق في الاختيار الحر.
·  الفوز والهزيمة من الآخرين في منافسة شريفة.
·       تشجيع المبادرات الفردية.
·  فرص التطور مبنية على الجدارة؛ فلا أحد مستحق لأي شيء.
·  العمل الشاق والتطوير الشخصي المستمر.
شركة سوني:
·  السمو بالثقافة اليابانية والحالة الوطنية.
·  أن نكون الرواد، لا نلحق بالآخرين ولكن نحقق المستحيلات.
·       تشجيع القدرة والإبداع الفردي.
شركة والت ديزني:
·       لا للسخرية.
·       رعاية ونشر القيم الأمريكية النافعة.
·       الإبداع، والأحلام، والتخيل.
·       الاهتمام الشديد بالاتساق والتفاصيل.
·       المحافظة والرقابة على سحر ديزني.
شركة ميرك:
·       المسئولية الاجتماعية للشركة.
·       الامتياز في جميع مجالات الشركة.
·       الابتكار المبني على العلم.
·       الأمانة والمصداقية.
·       الربح ولكن من عمل يخدم البشرية.

أخيرًا:
يقول الزعيم الهندي غاندي: (إن قوة الرؤية المشتركة تشحن الأفراد لكي يتجاوزوا الصعاب والسلبيات التي تستهلك وقتنا وجهدنا مما يقلل من مستوى جودة الحياة، إن الإلهام الذي تقدمه تلك الرؤية التي تحدثنا عنها هو عبارة عن قوة تحويل ودفع ذات تأثير بالغ في وقتنا وعلى جودة حياتنا).
أهم المراجع:
1. صناعة الرؤية الخاصة بشركتك، جيمس كولنز وجيري بوراس، دورية جامعة هارفرد، سبتمبر/ أكتوبر 1996م.
2.   الدروس الكبرى للحياة، هال أوربان.
3.   كيف أصبحوا عظماء؟ د.سعد سعود الكريباني.
4.   الأهم أولًا، ستيفن كوفي.