ماذا بعد الخطبة؟


وسط بين طرفي نقيض:
الطرف الأول:من المسلمين من يتشدد في مسألة الخطبة يعطلون سنة مجمع عليها فيمنعون الخاطب من رؤية المخطوبة إلا عند الزفاف، وهذا فيه مخالفة للشرع.
الطرف الثاني: من المسلمين من يتركون الحبل على الغارب، ويتركون الخاطب يجلس مع مخطوبته ويخلو بها، ويخرج بها في الأماكن العامة والمتنزهات حتى يتعرف كل طرف على الآخر ويتم التفاهم بينهما قبل الزواج، وهذا فيه مخالفة للشرع...


أما الوسط: فهو الشرع؛ وتتجلى فيه عظمة الإسلام حيث اتخذ موقفًا حكيمًا وسطًا يحقق الخير للطرفين دون أن يلحق ضررًا أو أذى بأي منهما؛ فقد أباح الشرع أن يرى كل منهما الآخر وفق ضوابط تصون سمعة الفتاة ومكانتها وتسمح للخاطب أن يقدم على الزواج وهو على بينة من أمره.
وهو بذلك يكون وسطًا بين طرفي نقيض، فلا تتعطل السنة ولا تتعدى إلى ما حرم الله تعالى.
أخي القارئ، أختي القارئة:
يسأل سائل وماذا بعد الخطبة؟
إذا تمت الرؤية الشرعية وحدث التوافق النفسي والارتياح بين الطرفين وصلوا صلاة الاستخارة، واطمأن كل طرف إلى الآخر بعد السؤال والبحث والاتفاق على الإجراءات اللازمة لإتمام مشروع الزواج، فإنه بعد ذلك تتم الخطبة بحفلة يجتمع فيها أهل الشاب وأهل الفتاة.
والخطبة هي أولى خطوات الزواج، وهي ليست إلا وعدًا بالزواج؛ فإذا تمت الخطبة فليس للخاطب شيء حتى يتم العقد فهو كالأجنبي عن المرأة تمامًا، لا يرى منها شيئًا، ولا يجالسها إلا في وجود محرم للفتاة، ولا يخرج معها ولا يخلو بها.
يقول الأستاذ حسين محمد يوسف في كتاب "اختيار الزوجين في الإسلام":
(إن قبول الخطبة لا معنى له أكثر من أنه اتفاق أو مواعدة بين الطرفين على إتمام عقد الزواج، متى توافرت أسبابه وتيسرت ظروفه، وتحققت شروطه، والمفروض شرعًا أن الاتفاق ملزم للطرفين وأن المواعدة واجبة الوفاء، بل إنها بالنسبة لأهل التقوى كل شيء.
ولا يقلل من قيمتها افتقادها للشكل القانوني، ولكن الاحتياط في هذا الزمان أوجب وألزم، فقد تغيرت المقاييس، وتبدلت العادات والتقاليد، واختلط الحق بالباطل، والحابل بالنابل، وترتب على ذلك الكثير من الفتن والمآسي، وأصبح من الضروري لمن يحرص على سلامة دينه وعرضه، أن يتقي الشبهات وأن يأخذ بالعزائم).
ومن ثم فإن قبول الخطبة، أو إعلانها والاحتفال بها، لا يجب أن يغير من وضع الخطيبين شيئًا، ولا يصح أن يستحل به ما حرمه الله، أو أن يحرم به ما أحل الله، ولا يترتب عليه للرجل أي حرمة أو سلطان، ولا تستحق به المرأة أي نفقة أو إلزام، لأنه ما زال بالنسبة لها أجنبي عنها وما زالت بالنسبة له أجنبية عنه، قد يستجد في الأمور ما يؤدي إلى فسخ الخطبة دون أن يعتبر مخالفة قانونية أو يترتب عليه أية حقوق شرعية.
إن المرأة المسلمة يحبها الإسلام أن تكون في مأمن على دينها وشرفها وعرضها وبعيدة عن مواضع الشبهات، ولتعلم أن تماديها في العلاقة مع خطيبها يقلل من مكانتها عنده، ويجعله يستهين بها، ذلك إلى جانب ما هو ممكن الوقوع فيه من المصائب التي نعايشها ونسمع عنها.
من هذه النماذج المرفوضة في الشرع والعرف: فتاة تمادت في العلاقة مع خطيبها حتى وقع بها ثم تركها بعد ذلك، ولم يكمل الزواج.
وهناك آثار اجتماعية ونفسية تلحق بالفتاة بعد مثل هذه المواقف ومن هذه الآثار:
1-  يترك الخاطب الفتاة بسمعة سيئة لها ولأهلها تلوكها الألسن.
2-  ربما لا يتقدم أحد لخطبتها بسبب خلوتها مع غير محارمها، مما يترك أسوأ الأثر في حياتها ومسيرة مستقبلها.
3-  تعاني الفتاة شعورًا حادًا بالذنب لما اقترفته من إثم، وخاصة إن لم يف الشاب بوعده بالزواج.
4-  قد تصاب الفتاة بالانهيار النفسي أو تعيش حالة اكتئاب، وقد تحاول الانتحار لما اقترفته في حق نفسها وحق أهلها، وفي هذا مخالفة للشرع وبعدًا عن طريق الله لأن المعصية تجلب معصية وهذا من شؤم المعاصي على العبد، فتخرج من مأزق إلى آخر ومن حفرة إلى أخرى، إلا أن ترجع إلى الطريق الصحيح.
خطر التهاون في الخلوة بالمخطوبة
جاء في كتاب فقه السنة للسيد سابق: (درج كثير من الناس على التهاون في هذا الشأن؛ فأباح لابنته أو قريبته أن تخالط خطيبها وتخلو معه دون رقابة، وتذهب معه حيث يريد من غير إشراف، وقد نتج عن ذلك أن تعرضت المرأة لضياع شرفها، وفساد عفافها، وإهدار كرامتها، ولا يتم الزواج، فتكون قد أضافت إلى ذلك فوات الزواج منها).
وعلى النقيض من ذلك، طائفة جامدة لا تسمح للخاطب أن يرى بناتها عند الخطبة وتأبى إلا أن يرضى بها، ويعقد عليها دون أن يراها أو تراه إلا ليلة الزفاف، وقد تكون رؤية مفاجئة لهما غير متوقعة فيحدث ما لم يكن مقدرًا من الشقاق والفراق.
وبعض الناس يكتفي بعرض الصورة الشمسية، وهي في الواقع لا تدل على شيء يمكن أن يطمئن ولا تصور الحقيقة تصويرًا دقيقًا.
وخير الأمور هو جاء به الإسلام، فإن فيه الرعاية لحق كلا الزوجين في رؤية كل منهما الآخر، مع تجنب الخلوة حماية للشرف وصيانة للعرض.
الشرع يقرر
جاء في كتاب فقه السنة لسيد سابق:
(يحرم الخلوة بالمخطوبة؛ لأنها محرمة على الخاطب، حتى يعقد عليها، ولم يرد الشرع بغير النظر، فبقيت على التحريم، ولأنه لا يؤمن مع الخلوة موافقة ما نهى الله عنه، فإذا وجد مَحْرم جازت الخلوة لامتناع وقوع المعصية مع حضوره).
ومن الأحاديث التي حرمت الخلوة بين الخاطب والمخطوبة ما يلي:
1-  عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها؛ فإن ثالثهما الشيطان ))([1]).
2-  عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان ))([2]).
3-  وقال صلى الله عليه وسلم: (( لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان ))([3]).
4-  روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (( لا يخلون رجل بامرأة ولا تسافرن امرأة إلا ومعها محرم ))، فقال رجل: يا رسول الله اكتتبت في غزوة كذا وكذا وخرجت امرأتي حاجّة، قال: (( اذهب فاحجج مع امرأتك ))([4]).
5-  وهل هناك أطهر من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (( إني لا أصافح النساء ))([5]).
وقال صلى الله عليه وسلم: (( لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له))([6]).
وقال صاحب المغني: (لا يجوز للخاطب الخلوة بالمخطوبة؛ لأنها محرمة، ولأنه لا يؤمن من الخلوة مواقعة المحظور).
والسؤال الآن: كيف تسير العلاقة بين الخاطب والمخطوبة بعد الخطبة؟
1-  تصحيح المفاهيم وفق تصورات حددها الشرع، وقد وقف الشرع موقفًا وسطًا بين طرفي نقيض؛ حيث أباح أن يرى كل منهما الآخر ويجلس معها ويتحدث معها مع وجود مَحْرم للفتاة، وفق ضوابط تصون السمعة والمكانة وتسمح للخاطب أن يتقدم وهو على بينة من أمره.
وحرم الخلوة بين الخطيبين وهو بذلك يكون وسطًا بين طرفي نقيض، فلا تتعطل السنة ولا تتعدى إلى ما حرم الله تعالى.
2-  الخطبة مقدمة من مقدمات الزواج، وما هي إلا مجرد وعد بالزواج، والخاطب والمخطوبة كلاهما أجنبي عن الآخر ما دام لم يتم عقد الزواج، ففي هذه الحالة فإن الحديث معهما يكون منضبطًا بالضوابط الشرعية.
3-  وضع ضوابط من قبل الأهل، وهنا يبرز الدور الهام للأهل أو الوالدين لمراقبة الأبناء وخاصة الفتيات، فيتم تحديد الوقت والمكان بحضور محرم للفتاة إذا أراد الخاطب أن يزور بيت المخطوبة بما يتفق مع ضوابط وتعاليم الإسلام.
4-  تلتزم الفتاة بالزي والحجاب الشرعي الذي تخرج به خارج البيت عند زيارة الخاطب لهم.
5-  اعلم أخي الشاب وأختي الفتاة أن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته، كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( فإن جبريل ألقى في روعي: أن أحدًا منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه، فاتقوا الله أيها الناس، وأجملوا في الطلب، فإن استبطأ أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية الله؛ فإن الله لا ينال فضله بمعصيته ))([7]).
وهذه حقيقة نؤكد عليها أن ما عند الله يطلب بطاعته تعالى لا بمعصيته.
6-  الغيرة على محارم الله وعلى الفتيات من قبل الوالدين والأهل، فلا نتساهل مع الأبناء وخاصة الفتيات، ووضع ضوابط وحدود إلى أن يتم العقد، فعن ابن عمر مرفوعًا: (( ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر والعاق والديوث الذي يقر في أهله الخبث ))([8]).



[1] صححه الألباني، غاية المرام، (180).
[2] صححه الألباني، صحيح وضعيف الجامع الصغير، (2546).
[3] رواه مسلم، كتاب السلام، باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها، (5806).
[4] رواه البخاري، كتاب الجهاد، باب من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة وكان له عذر هل، (3006).
[5] صححه الألباني، صحيح وضعيف الجامع الصغير، (2513).
[6] قال الألباني: حسن صحيح، صحيح الترغيب والترهيب، (1910).
[7] صححه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب، (1700).
[8] صححه الألباني، صحيح وضعيف الجامع الصغير، (3052).